تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

العرب : تفكهت أي تنعمت وتفكهت أي حزنت وتقولون : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) بحذف القول ومعنى الغرم ذهاب المال بغير عوض من الغرام وهو الهلاك ومن مجيء الغرام بمعنى الهلاك قول القائل (١) :

أن يعذب يكن غراما وإن يع

ط جزيلا فإنه لا يبالي

وقال ابن عباس : الغرام العذاب ، أي : عذبوا بذهاب أموالهم ، والمعنى : أن غرمنا الحب الذي بذرناه فذهب بغير عوض ومن الغرام بمعنى العذاب قول القائل (٢) :

وثقت بأنّ الحلم منك سجية

وأنّ فؤادي مبتلى بك مغرم

وقرأ شعبة : أئنا بهمزة مفتوحة بعدها همزة مكسورة على الاستفهام والباقون بهمزة واحدة مكسورة على الخبر (بَلْ نَحْنُ) أي : خاصة (مَحْرُومُونَ) أي : ممنوعون رزقنا حرمنا من لا يرد قضاؤه فلاحظ لنا في الاكتساب فلو كان الزارع ممن له حظ لأفلح زرعه ثم ذكر تعالى لهم حجة أخرى بقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ) أي : أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة ما نبهنا عليه فيما مضى من المطعم وغيره فرأيتم الماء (الَّذِي تَشْرَبُونَ) فتحيوا به أنفسكم وتسكنوا به عطشكم ، ذكرهم بنعمه التي أنعم بها عليهم بإنزال المطر الذي لا يقدر عليه أحد إلا الله عزوجل (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) أي : السحاب وهو اسم جنس واحده مزنة قال القائل (٣) :

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

وعن ابن عباس والثوري : المزن السماء والسحاب ، وقال أبو زيد : المزنة : السحابة البيضاء أي خاصة وهي أعذب ماء والجمع مزن والمزنة المطرة (أَمْ نَحْنُ) أي : خاصة (الْمُنْزِلُونَ) أي : له بما لنا من العظمة (لَوْ نَشاءُ) أي : حال إنزاله وبعده قبل أن ينتفع به (جَعَلْناهُ) أي بما تقتضيه صفة العظمة (أُجاجاً) أي : ملحا مرا محرقا كأنه في الأحشاء لهيب النار المؤجج فلا يبرد عطشا ولا ينبت نبتا ينتفع به ، وقال ابن عادل : الأجاج المالح الشديد الملوحة (فَلَوْ لا) أي : فهلا ولم لا (تَشْكُرُونَ) أي : تجددون الشكر على سبيل الاستمرار باستعمال ما أفادكم ذلك من القوى في طاعة الله الذي أوجده لكم ومكنكم منه.

ثم ذكر تعالى لهم حجة أخرى بقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ) أي : أخبروني هل رأيتم بالبصر

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو للأعشى في ديوانه ص ٥٩ ، ولسان العرب (غرم) ، ومقاييس اللغة ٤ / ٤١٩ ، وتاج العروس (غرم) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ٨ / ١٣١ ، والمخصص ٤ / ٦٢ ، ١٢ / ٩٨.

(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٣) البيت من المتقارب ، وهو لعامر بن جوين في تخليص الشواهد ص ٤٨٣ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٥ ، ٤٩ ، ٥٠ ، والدرر ٦ / ٢٦٨ ، وشرح التصريح ١ / ٢٧٨ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٣٣٩ ، ٤٦٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٤٣ ، والكتاب ٢ / ٤٦ ، ولسان العرب (أرض) ، (بقل) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٤٦٤ ، وتاج العروس (ودق) ، (بقل) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ٣٥٢ ، وأوضح المسالك ٢ / ١٠٨ ، وجواهر الأدب ص ١١٣ ، والخصائص ٢ / ٤١١ ، وشرح الأشموني ١ / ١٧٤ ، والرد على النحاة ص ٩١ ، ورصف المباني ص ١٦٦ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٥٧ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٤٤ ، وشرح المفصل ٥ / ٩٤ ، ولسان العرب (خضب) ، والمحتسب ٢ / ١١٢ ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٥٦ ، والمقرب ١ / ٣٠٣ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٧١.

٢٠١

والبصيرة ما تقدم فرأيتم النار (الَّتِي تُورُونَ) أي : تخرجون من الشجر الأخضر (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ) أي : اخترعتم وأوجدتم وأحييتم وربيتم ورفعتم (شَجَرَتَها) أي : التي يقدح منها النار وهي المرخ والعفار وهما شجرتان يقدح منهما النار وهما رطبتان ، وقيل : أراد جميع الشجر الذي توقد به النار (أَمْ نَحْنُ) أي : خاصة وأكد بقوله تعالى : (الْمُنْشِؤُنَ) أي : لها بما لنا من العظمة على تلك الهيئة فمن قدر على إيجاد النار التي هي أيبس ما يكون في الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادّة لها كان أقدر على إعادة الطراوة في تراب الجسد الذي كان غضا طريا فيبس.

ولما كان الجواب قطعا أنت وحدك قال تعالى دالا على ذلك تنبيها على عظم هذا الخبر (نَحْنُ) أي : خاصة (جَعَلْناها) أي : لما اقتضته عظمتنا (تَذْكِرَةً) أي : شيئا يتذكر به تذكرا عظيما جليلا كما أخبرنا به من البعث وعذاب النار الكبرى وما ينشأ فيها من شجرة الزقوم وغير ذلك ، وقيل : موعظة يتعظ بها المؤمن ؛ وعن أبي هريرة رضى الله عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ناركم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ، قالوا : والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزأ كلها مثلها مثل حرّها» (١). (وَمَتاعاً) أي : بلغة ومنفعة (لِلْمُقْوِينَ) أي : المسافرين والمقوى النازل في أرض القوا بالكسر والقصر والمدّ وهي القفر البعيدة من العمران ، والمعنى : أنه ينتفع بها أهل البوادي والأسفار فإن منفعتهم بها أكثر من المقيم فإنهم يوقدونها بالليل لتهرب السباع ويهتدي الضال إلى غير ذلك من المنافع ؛ وقال مجاهد : للمقوين أي : المنتفعين بها من الناس أجمعين يستضيئون بها في الظلمة ويصطلون بها من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز إلى غير ذلك من المنافع ، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله تعالى منها ؛ وقال ابن زيد : للجائعين في إصلاح طعامهم يقال : أقويت منذ كذا وكذا أي : ما أكلت شيئا قال الشاعر (٢) :

وإني لاختار القوا طاوي الحشى

محافظة من أن يقال لئيم

وقال قطرب : المقوي من الأضداد يقال للفقير : مقو لخلوه من المال ويقال للغني : مقو لقوته على ما يريد ، والمعنى : فيها متاعا ومنفعة للفقراء والأغنياء لا غنى لأحد عنها ، وقال المهدوي : الآية تصلح للجميع لأنّ النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير.

ولما ذكر تعالى ما يدل على وجوب وحدانيته وقدرته وإنعامه على سائر الخلق خاطب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كل أحد من الناس بقوله تعالى : (فَسَبِّحْ) أي : أوقع التنزيه العظيم من كل شائبة نقص من ترك البعث وغيره ولا سيما بعد بلوغ هذه الأدلة (بِاسْمِ) أي : ملتبسا بذكر اسم (رَبِّكَ) أي : المحسن إليك بهذا البيان الأعظم.

فائدة : أثبتوا ألف الوصل هنا في اسم ربك لأنه لم يكثر دوره كثرته في البسملة وحذفوه منها لكثرة دورها وهم شأنهم الإيجاز وتقليل الكثير إذا عرف معناه وهذا معروف لا يجهل ، وإثبات ما أثبت من أشكاله مما لا يكثر دليل على الحذف منه ، ولذا لا تحذف مع غير الباء في اسم الله ولا مع الباء في غير الجلالة الكريمة من الأسماء وقد أوضحت ذلك في مقدمتي على البسملة والحمدلة.

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق حديث ٣٢٦٥ ، ومسلم في الجنة حديث ٢٨٤٣.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لحاتم الطائي في ديوانه ص ١٧٥ ، ولسان العرب (قوا) ، وتاج العروس (قوا).

٢٠٢

ولما كان المقام للعظمة قال الله تعالى : (الْعَظِيمِ) أي : الذي ملأ الأكوان كلها عظمة فلا شيء منها إلا وهو مملوء بعظمته تنزيها عن أن يلحقه شائبة نقص أو يفوته شيء من كمال ، فالعظيم صفة للاسم أو الرب ، والاسم قيل : بمعنى الذات وقيل : زائد أي : فسبح ربك واختلف في «لا» في قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ) فقال أكثر المفسرين : معناه فاقسم ولا صلة مؤكدة بدليل قوله تعالى بعد ذلك : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) ومثلها في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩] والتقدير : ليعلم وقال بعضهم أنها حرف نفي وإنّ المنفي بها محذوف وهو كلام الكافر الجاهل والتقدير فلا حجة بما يقوله الكافر ؛ ثم ابتدأ قسما بما ذكر وضعف هذا بأنّ فيه حذف اسم لا وخبرها قال أبو حيان : ولا ينبغي فإنّ القائل بذلك مثل سعيد بن جبير تلميذ حبر القرآن وهو عبد الله بن عباس ، ويبعد أن يقول سعيد إلا بتوقيف ، وقال بعضهم : إنها لام الابتداء والأصل : فلأقسم فأشبعت الفتحة فتولد منها ألف كقول بعضهم : أعوذ بالله من العقراب قال الزمخشري : ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأمرين : أحدهما : أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة والإخلال بها ضعيف قبيح ، والثاني : أن لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال وفعل القسم يجب أن يكون للحال.

واختلف أيضا في معنى قوله عزوجل : (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) فقال أكثر المفسرين : بمساقطها لغروبها ، قال الزمخشري : ولعل الله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالا عظيمة مخصوصة وللملائكة عبادات موصوفة ، أو لأنه وقت قيام المجتهدين والمبتهلين إليه من عباده الصالحين ونزول الرحمة والرضوان عليهم ، فلذلك أقسم بمواقعها واستعظم ذلك بقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) وقال عطاء بن رباح : أراد بمواقعها منازلها ، قال الزمخشري : وله في ذلك من الدليل على عظيم القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف ، وقال الحسن : مواقعها انكدارها وانتثارها يوم القيامة ؛ وقال ابن عباس والسدي : المراد نجوم القرآن أي أوقات نزولها ؛ وقال الضحاك : هي الأنواء التي كانت الجاهلية تقول إذا مطروا : مطرنا بنوء كذا ، وقال القشيري : هو قسم ولله أن يقسم بما يريد وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة فإن قيل لو تعلمون جوابه ماذا؟ أجيب : بأنه مقدّر تقديره لعظمتموه أي : لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم ولكنكم ما علمتموه فعلم أنكم لا تعلمون ، وقرأ بموقع حمزة والكسائي بسكون الواو ولا ألف بعدها والباقون بفتح الواو ألف بعدها.

وقوله تعالى : (إِنَّهُ) أي : القرآن الذي أفهمته النجوم بعموم إفهامها (لَقُرْآنٌ) أي : جامع سهل ذو أنواع جليلة (كَرِيمٌ) أي : بالغ الكرم منزه عن كل شائبة لؤم ودناءة هو المقسم عليه ، وفي الكلام اعتراضان أحدهما : الاعتراض بقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) بين القسم والمقسم عليه ، والثاني الاعتراض بقوله تعالى : (لَوْ تَعْلَمُونَ) بين الصفة الموصوف.

تنبيه : من كرم هذا القرآن العظيم كونه من الملك الأعلى إلى خير الخلق بسفارة روح القدس ، مشتملا على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد وبلسان العرب الذين اتفقت علماء الفرق على أنّ لسانهم أفصح الألسن ، وعلى وجه أعجز العرب كافة وبقية الخلق أجمعين واختلف في معنى قوله تعالى : (فِي كِتابٍ) أي : مكتوب (مَكْنُونٍ) أي : مصون فالذي عليه الأكثر أنه المصحف سمي قرآنا لقرب الجوار على الاتساع ولأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نهى أن يسافر

٢٠٣

بالقرآن إلى أرض العدوّ» (١). أراد به المصحف وقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ) خبر بمعنى النهي ولو كان باقيا على خبرتيه لزم منه الخلف لأنّ غير المطهر يمسه وخبر الله تعالى لا يقع فيه خلف لأنّ المراد بقوله تعالى : (إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) لا المحدثون وهو قول عطاء وطاوس وسالم والقاسم وأكثر أهل العلم وبه قال مالك والشافعي رضى الله عنهما ؛ وقال ابن عادل : والصحيح أنّ المراد بالكتاب : المصحف الذي بأيدينا لما روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم «لا يمس القرآن إلا طاهر» (٢) ، وقال ابن عمر قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» (٣) وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالمصحف (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) فقام فاغتسل وأسلم ، وعلى هذا قال قتادة وغيره معناه لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس انتهى.

وقال ابن عباس : (مَكْنُونٍ) محفوظ عن الباطل والكتاب هنا كتاب في السماء ، وقال جابر : هو اللوح المحفوظ ، أي : لقوله تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج : ٢١ ـ ٢٢] وقال عكرمة : التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن ، وقال السدي : الزبور وقيل : لا من «لا يمسه» نافية والضمة في لا يمسه ضمة إعراب وعلى هذا ففي الجملة وجهان : أحدهما : أن محلها الجرّ صفة لكتاب ، والمراد به : إمّا اللوح المحفوظ والمطهرون حينئذ الملائكة ، أو المراد به المصحف والمراد بالمطهرون الملائكة كلهم ، والثاني : محلها رفع صفة لقرآن والمراد بالمطهرين : الملائكة فقط أي : لا يطلع عليه ، لأنّ نسبة المس إلى المعاني متعذرة وقيل : إنها ناهية والفعل بعدها مجزوم لأنه لو فك عن الإدغام لظهر ذلك فيه كقوله تعالى : (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [آل عمران : ١٧٤] ولكنه أدغم ، ولما أدغم حرّك بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب ، وفي الحديث : «إنا لم نرده عليكما لأننا حرم» (٤) بضم الدال ، وإن كان القياس يقتضي جواز فتحها تخفيفا ، وبهذا ظهر فساد رد من رد بأنّ هذا لو كان نهيا كان يقال لا يمسه بالفتح لأنه خفي عليه وانضم ما قبل الهاء في هذا التحويل لا يجوّز سيبويه غيره.

واختلفوا في المس المذكور في الآية فقال أنس وسعيد بن جبير : لا يمس ذلك إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة وقال أبو العالية وابن زيد : هم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم ، وقال الكلبي : هم السفرة الكرام البررة وهذا كله قول واحد وهو اختيار مالك ، وقال الحسن : هم الملائكة الموصوفون في سورة عبس في قوله تعالى : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ) [عبس : ١٣ ـ ١٦] وقيل : معنى لا يمسه لا ينزل به إلا المطهرون أي : إلا الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء ولا يمس اللوح المحفوظ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد باب ١٢٩ ، ومسلم في الإمارة حديث ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٤ ، وأبو داود في الجهاد باب ٨١ ، وابن ماجه في الجهاد باب ٤٥ ، ومالك في الجهاد حديث ٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٦ ، ٧ ، ١٠ ، ٥٥ ، ٦٣ ، ٧٦ ، ١٢٨.

(٢) أخرجه الدارمي في الطلاق حديث ٢٢٦٦ ، ومالك في مسّ القرآن حديث ١.

(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ / ٤٨٥ ، والطبراني في المعجم الكبير ٣ / ٢٣٠ ، ٩ / ٣٣ ، والدارقطني في سننه ١ / ١٢٣ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١ / ٢٧٦ ، ٢٧٧ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٨٢٩.

(٤) أخرجه البخاري في الحج حديث ١٨٢٥ ، ومسلم في الحج حديث ١١٩٣ ، والترمذي في الحج حديث ٨٤٩ ، والنسائي في المناسك حديث ٢٨١٩ ، وابن ماجه في المناسك حديث ٣٠٩٠.

٢٠٤

الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون ، ولو كان المراد طهر الحدث لقال المتطهرون أو المطهرون بتشديد الطاء ومن قال بالأوّل قال : المطهرون يعني المتطهرون.

تنبيه : اختلف العلماء في مس المصحف وحمله على غير وضوء فالجمهور على المنع من مسه على غير طهارة لحديث عمرو بن حزم وهو مذهب عليّ وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي ، وأما الحمل فلأنه أبلغ من المس سواء حمله بعلاقته أم في كمه أم على رأسه وسواء مس نفس الأسطر أم ما بينها أم الحواشي أم الجلد أم العلاقة أم الخريطة أم الصندوق إذا كان المصحف فيهما ، وسواء مس بأعضاء الوضوء أم بغيرها ؛ وقال جماعة بجواز مسه وحمله واحتجوا بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى هرقل كتابا فيه قرآن ، وهرقل محدث يمسه هو وأصحابه ، وبأنّ الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار ، وبأنه إذا لم تحرم القراءة فالحمل والمس أولى ، وبأنه يجوز حمله في أمتعة.

وأجيب عن الأوّل : بأنّ ذلك الكتاب كان فيه آيتان ولا يسمى مصحفا ولا ما في معناه وبأنه لو كان كتابا قد تضمن مع القرآن دعاء إلى الإسلام فلم يكن القرآن بانفراده مقصودا فجاز تغليبا للمقصود فيه ، وعن الثاني : بأنه أبيح للصبيان للضرورة لأنهم غير مكلفين ، وعن الثالث : بأن القراءة أبيحت للحاجة وعسر الوضوء لها كل وقت وبأنا لا نسلم الأولوية المذكورة بدليل أن الكافر لا يمنع من القراءة ويمنع من حمل المصحف ومسه ، وعن الرابع : بأن جواز حمل المصحف في الأمتعة محله إذا لم يكن المصحف مقصود بالحمل.

وقال آخرون بحرمة المس دون الحمل واحتجوا بأنّ المحرم يحرم عليه مس الطيب دون حمله ، وأجيب عنه : بأنه غير صحيح لأنّ حمل المصحف أبلغ في الاستيلاء عليه من مسه ، فلما حرم الأدنى كان تحريم الأعلى أولى ولأن تحريم المصحف إنما هو لحرمته فاستوى فيه مسه وحمله بخلاف طيب المحرم فإنّ تحريمه مقصور على الاستمتاع به وليس في حمله استمتاع به ، ولو لف كمه على يده وقلب به أوراق المصحف حرم عليه لأنّ القلب يقع باليد لا بالكم بخلاف قلب ذلك بعود ، ويحرم كتب شيء من القرآن أو من أسماءه تعالى بنجس أو على نجس ومسه به إذا كان غير معفو عنه ، ولو خاف على المصحف من حرق أو غرق أو وقوع نجاسة عليه أو وقوعه في يد كافر جاز حمله مع الحدث بل يجب ذلك صيانة للمصحف ، ولو لم يجد من يودعه المصحف وعجز عن الوضوء فله حمله مع الحدث ويلزمه أن يتيمم إن وجد التراب ولا يجوز المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه في أيديهم للنهي عنه في الصحيحين ، وخرج بالمصحف غيره نحو كتب الفقه والحديث وكتب التفسير ، فلا يحرم حملها ولا مسها إلا أن يكون القرآن أكثر من التفسير أو مساويا له فيحرم الحمل والمس لأنه حينئذ في معنى المصحف وفي ذلك زيادة ذكرتها في شرح المنهاج وغيره.

وقوله تعالى : (تَنْزِيلٌ) أي : منزل إليكم بالتدريج بحسب الوقائع والتقريب للإفهام والتأني والترقية من حال إلى حال وحكم إلى حكم بوسائط الرسل من الملائكة (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : الخالق العالم بتربيتهم صفة القرآن أي : القرآن منزل من عند رب العالمين سمى المنزل تنزيلا على اتساع اللغة كقوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : ١١] وأوثر المصدر لأن تعلق المصدر بالفاعل أكثر ، وفي ذلك رد على قول من قال : بأن القرآن شعر أو سحر أو كهانة.

٢٠٥

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) أي : القرآن الذي تقدمت أوصافه العالية وهو يتجدد إليكم إنزاله وقتا بعد وقت (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أي : متهاونون كمن يدهن في الأمر أي : يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به ، قال ابن برّجان : الأدهان والمداهنة : الملاينة في الأمور والتغافل والركون إلى التجاوز ا. ه.

قال البقاعي : فهو على هذا إنكار على من سمع أحدا يتكلم في القرآن بما لا يليق ثم لا يجاهره بالعداوة ، وأهل الاتحاد كابن عربي الطائي صاحب الفصوص ، وابن الفارض صاحب التائية ، أول من صوبت إليه هذه الآية فإنهم تكلموا في القرآن على وجه يبطل الدين أصلا ورأسا ويحله عروة عروة ، فهم أضر الناس على هذا الدين ومن يتأوّل لهم أو ينافح عنهم أو يعتذر لهم أو يحسن الظنّ بهم مخالف لإجماع الأمّة أنجس حالا منهم فإنّ مراده إبقاء كلامهم الذي لا أفسد للإسلام منه من غير أن يكون لإبقائه مصلحة ما بوجه من الوجوه ا. ه. وجرى ابن المقري في روضه على كفر من شك في كفر طائفة ابن العربي الذين ظاهر كلامهم عند غيرهم الاتحاد ، وهو بحسب ما فهمه من ظاهر كلامهم ، ولكن كلام هؤلاء جار على اصطلاحهم إذا اللفظ المصطلح عليه حقيقة في معناه الاصطلاحي مجاز في غيره ، والمعتقد منهم لمعناه معتقد لمعنى صحيح ؛ وأمّا من اعتقد ظاهره من جهلة الصوفية الذين لا علم عندهم بل أكثرهم يدعي أنّ العلم حجاب ومدعي ذلك هو المحجوب فإنه يعرّف فإن استمرّ على ذلك بعد معرفته صار كافرا. فنسأل الله تعالى التوفيق والعصمة.

ولما كان هذا القرآن متكفلا بسعادة الدارين قال تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) أي : حظكم ونصيبكم وجميع ما تنتفعون به من هذا الكتاب وهو نفعكم كله (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) فتضعون الكذب مكان الشكر كقوله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال : ٣٥] أي : لم يكونوا يصلون ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصلاة ، قال القرطبي : وفيه بيان أنّ ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسبابا بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة أو صبر إن كان مكروها تعبدا له وتذللا ، وعن ابن عباس : أنّ المراد به الاستسقاء بالأنواء ، وهو قول العرب مطرنا بنوء كذا ؛ ورواه علي بن أبي طالب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : «مطر الناس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر فقال بعضهم : هذه رحمة الله تعالى وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا قال : فنزلت هذه الآية (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) حتى بلغ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» (١).

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٧٣.

٢٠٦

وفيه أيضا «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج في سفر فعطشوا فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأيتم إن دعوت الله تعالى لكم فسقيتم لعلكم أن تقولوا هذا المطر بنوء كذا فقالوا : يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء فصلى ركعتين ودعا الله تعالى ، فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا ، فمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول سقينا بنوء كذا ولم يقل هذا من رزق الله تعالى فنزلت وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» (١). أي : شكر الله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة ، وتقولون : سقينا بنوء كذا كقول القائل : جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ وجعلت إنعامي لديك أن اتخذتني عدوّا ، قال الشافعي : لا أحب لأحد أن يقول مطرنا بنوء كذا وإن كان النوء عندنا الوقت لا يضرّ ولا ينفع ولا يمطر ولا يحبس شيئا من المطر ، والذي أحب أن يقول : مطرنا وقت كذا كما يقول مطرنا شهر كذا ، ومن قال مطرنا بنوء كذا وهو يريد أن النوء أنزل الماء كما يقول أهل الشرك فهو كافر حلال دمه إن لم يتب. وحاصله إن اعتقد أنّ النوء هو الفاعل حقيقة فهو كافر وإلا فيكره له ذلك كراهة تنزيه ، وسبب الكراهة : أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره فيساء الظنّ بقائلها ولأنها من شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم.

ثم بين سبحانه أنه لا فاعل لشيء في الحقيقة سواه بقوله تعالى : (فَلَوْ لا) وهي : أداة تفهم طلبا بزجر وتوبيخ وتقريع بمعنى فهلا ولم لا (إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) أي : بلغت الروح منكم ومن غيركم عند الاحتضار الحلقوم ، أضمرت من غير ذكر لدلالة الكلام عليها دلالة ظاهرة ، وفي الحديث : «أن ملك الموت له أعوان يقطعون العروق ويجمعون الروح شيئا فشيئا حتى تنتهي إلى الحلقوم فيتوفاها ملك الموت» (٢). والحلقوم مجرى الطعام في الحلق والحلق مساغ الطعام والشراب معروف فكان الحلقوم أدنى الحلق إلى جهة اللسان (وَأَنْتُمْ) أي : والحال أنكم أيها العاكفون حول المحتضر المتوجعون له (حِينَئِذٍ) أي : بلغت الروح ذلك الموضع (تَنْظُرُونَ) أي : إلى أمري وسلطاني ، أو إلى الميت ولا حيلة لكم ولا فعل بغير النظر ولم يقل : تبصرون لئلا يظنّ أنّ لهم إدراكا بالبصر لشيء من البواطن من حقيقة الروح ونحوها (وَنَحْنُ) أي : والحال أنا نحن بما لنا من العظمة (أَقْرَبُ إِلَيْهِ) أي : المحتضر بعلمنا وقدرتنا (مِنْكُمْ) على شدّة قربكم منه ، قال عامر بن قيس : ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله أقرب إليّ منه (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) من البصيرة أي : لا تعلمون ذلك (فَلَوْ لا) أي : فهلا (إِنْ كُنْتُمْ) أيها المكذبون بالعبث (غَيْرَ مَدِينِينَ) أي : مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم ، أو مقهورين مملوكين مجزيين محاسبين بما عملتم في دار البلاء التي أقامكم فيها أحكم الحاكمين ، من دانه إذا ذله واستعبده ، وأصل تركيب دان للذل والانقياد قاله البيضاوي (تَرْجِعُونَها) أي : الروح إلى ما كانت عليه (إِنْ كُنْتُمْ) كونا ثابتا (صادِقِينَ) فيما زعمتم فلولا الثانية تأكيد للأولى ، وإذ ظرف لترجعون المتعلق به الشرطان ؛ والمعنى : أنكم في جحودكم أفعال الله تعالى وآياته في كل شيء أن أنزل عليكم كتابا معجزا قلتم سحر وافتراء ، وإن أرسل إليكم رسولا صادقا قلتم ساحر كذاب ، وإن رزقكم مطرا يحييكم به قلتم صدق نوء كذا على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل ، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٧ / ٢٢٩.

(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٢٠٧

بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد.

ثم ذكر تعالى طبقات الخلق عند الموت وبين درجاتهم فقال عز من قائل : (فَأَمَّا إِنْ كانَ) المتوفى (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) السابقين الذين اجتذبهم الحق من أنفسهم فقرّبهم منه فكانوا مرادين قبل أن يكونوا مريدين ، وليس القرب قرب مكان لأنه تعالى منزه عنه وإنما هو بالتخلق بالصفات الشريفة على قدر الطاقة البشرية ليصير الإنسان روحا خالصا كالملائكة لا سبيل إلى الحظوظ والشهوات عليها وقوله تعالى : (فَرَوْحٌ) مبتدأ خبره مقدّر قبله أي : فله روح ، أي : راحة ورحمة وما ينعشه من نسيم الريح. وقال سعيد بن جبير : فله فرج ، وقال الضحاك : مغفرة ورحمة (وَرَيْحانٌ) أي : رزق عظيم ونبات حسن بهيج وأزاهير طيبة الرائحة ، وقال مقاتل : هو بلسان حمير رزق ، يقال : خرجت أطلب ريحان الله أي : رزقه ؛ وقيل : هو الريحان الذي يشم ؛ قال أبو العالية : لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه ثم تقبض روحه ؛ وقال أبو بكر الوراق : الروح النجاة من النار والريحان دخول دار القرار (وَجَنَّةُ) أي : بستان جامع الفواكه والرياحين (نَعِيمٍ) أي : ذات تنعم ليس فيها غيره وأهله مقصورة عليهم.

تنبيه : جنت هنا مجرورة التاء ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ، فالكسائي بالأمالة في الوقف على أصله ، والباقون بالتاء على المرسوم.

(وَأَمَّا إِنْ كانَ) المتوفى (مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي : الذين هم في الدرجة الثانية من أصحاب الميمنة (فَسَلامٌ لَكَ) أي : يا صاحب اليمين (مِنْ) إخوانك (أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي : يسلمون عليك كقوله تعالى : (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة : ٢٦] وقال القرطبي : فسلام لك من أصحاب اليمين أي : لست ترى منهم إلا ما تحبّ من السلامة فلا تهتم لهم فإنهم يسلمون من عذاب الله تعالى ؛ وقيل المعنى : سلام لك منهم ، أي : أنت سالم من الاعتمام لهم والمعنى واحد ؛ وقيل : أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلي الله عليك ويسلم ؛ وقيل معناه : سلمت أيها العبد مما تكره فإنك من أصحاب اليمين فحذف إنك ؛ وقيل : إنه يحيى بالسلام تكرّما ؛ وعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقوال : أحدها : عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت قاله الضحاك ، وقال ابن مسعود : إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال : ربك يقرئك السلام ، الثاني : عند مسألته في القبر يسلم عليه منكر ونكير ، الثالث : عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها ؛ قال القرطبي : ويحتمل أن يسلم عليه في المواطن الثلاثة ويكون ذلك إكراما بعد إكرام.

ولما ذكر تعالى الصنفين الناجيين أتبعهما الهالكين جامعا لهم في صنف واحد لأنّ من أريدت له السعادة يكفيه ذلك ومن ختم له بالشقاوة والعياذ بالله تعالى لا ينفعه الإغلاظ والإكثار فقال تعالى : (وَأَمَّا إِنْ كانَ) المتوفى (مِنَ الْمُكَذِّبِينَ) الذين أخذناه من أصحاب المشأمة وأنتم حوله تتقطع أكبادكم له ولا تقدرون له على شيء أصلا (الضَّالِّينَ) أي : عن الهدى وطريق الحق (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) كما قال تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٥١] إلى أن قال : (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) [الواقعة : ٥٤] وقال تعالى : (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) [الصافات : ٦٧] أي : ماء متناه في الحرارة بعد ما نالوا من العطش كما يرد أصحاب الميمنة الحوض كما يبادر به

٢٠٨

للقادم ليبرد به غلة عطشه ويغسل به وجهه ويديه (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي : ونزل من تصلية جحيم ، والمعنى : إدخال في النار ؛ وقيل : إقامة في الجحيم ومقاساة لأنواع عذابها ، يقال : أصلاه النار وصلاه أي : جعله يصلاها والمصدر هنا مضاف إلى المفعول كما يقال : لفلان إعطاء ما له أي : يعطي المال (إِنَّ هذا) أي : الذي ذكر في هذه السورة من أمر البعث الذي كذبوا به في قولهم : أننا لمبعوثون ومن قيام الأدلة عليه (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي : حق الخبر اليقين أي : لما عليه من الأدلة القطعية المشاهدة كأنه مشاهد مباشر ، وقيل : إنما جاز إضافة الحق إلى اليقين وهما واحد لاختلاف لفظهما وذلك من باب إضافة المترادفين

ولما حقق له تعالى إلى هذا اليقين سبب عن أمره لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتنزيه عما وصفوه به مما يلزم منه وصفه بالعجز فقال تعالى : (فَسَبِّحْ) أي : أوقع التنزيه كله عن كل شائبة نقص بالاعتقاد والقول والفعل بالصلاة وغيرها بأن تصفه بكل ما وصف به نفسه من الأسماء الحسنى وتنزهه عن كل ما نزه نفسه عنه (بِاسْمِ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك بما خصك به مما لم يعطه أحدا غيرك وإذا كان هذا لاسمه فكيف بما هو له (الْعَظِيمِ) الذي ملأت عظمته جميع الأقطار والأكوان وزادت على ذلك بما لا يعلمه حق العلم سواه ، لأنّ من له هذا الخلق على هذا الوجه المحكم وهذا الكلام الأعز الأكرم لا ينبغي لشائبة نقص أن تلم بجنابه أو تدنو من فناء بابه ، وعن عقبة بن عامر قال : «لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اجعلوها في ركوعكم ، ولما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اجعلوها في سجودكم» (١). أخرجه أبو داود وعن أبي ذر قال : «قال لي عليه الصلاة والسلام : ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله تعالى سبحان الله وبحمده» (٢). وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» (٣) هذا الحديث آخر حديث في البخاري وعن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قال : «سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة» (٤). «روى أبو طيبة عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا» (٥) ورواه البيهقي وغيره وكان أبو طيبة لا يدعها أبدا وأخرجه ابن الأثير في كتابه جامع الأصول ولم يعزه.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الصلاة حديث ٨٦٩ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ٨٨٧ ، والدارمي في الصلاة حديث ١٣٠٥ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٥٥.

(٢) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٢٧٣١.

(٣) أخرجه البخاري في الدعوات حديث ٦٤٠٦ ، والأيمان والنذور حديث ٦٦٨٢ ، ومسلم في الذكر حديث ٢٦٩٤ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٤٦٧ ، وابن ماجه في الأدب حديث ٣٨٠٦.

(٤) أخرجه الترمذي في الدعوات حديث ٣٤٦٤.

(٥) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٥ / ١٥٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٦٤٠ ، ٢٧٠١ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٢١٨١.

٢٠٩

سورة الحديد

مكية أو مدنية وهي تسع وعشرون آية وخمسمئة وأربع وأربعون كلمة وألفان وأربعمئة وستة وسبعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي أحاطت هيبته بجميع الموجودات (الرَّحْمنِ) الذي وسعهم جوده في جميع الحركات والسكنات (الرَّحِيمِ) الذي خص أهل ولايته بما يرضيه من العبادات

ولما ختمت الواقعة بالأمر بتنزيهه عما أنكره الكفرة من البعث جاءت هذه لتقرير ذلك التنزيه فقال تعالى :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١))

(سَبَّحَ لِلَّهِ) أي : الملك المحيط بجميع صفات الكمال (ما فِي السَّماواتِ) أي : الأجرام العالية والذي فيها (وَالْأَرْضِ) والذي فيها أي : نزهه كل شيء فاللام مزيدة وجيء بما دون من تغليبا للأكثر (وَهُوَ) أي : وحده (الْعَزِيزُ) الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء (الْحَكِيمُ) أي : الذي أتقن كل شيء صنعه ، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها (لَهُ) أي : وحده (مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما فيهما وما بينهما ظاهرا أو باطنا فالملك الظاهر ما هو الآن موجود في الدنيا من أرض مدحية وسماء مبنية وكواكب مضية وأفلاك ورياح وسحاب مرئية وغير ذلك مما يحيط به علمه تعالى والملك الباطن الغائب عنا وأعظمه المضاف إلى الآخرة وهو

٢١٠

الملكوت (يُحْيِي) أي : له صفة الإحياء فيحيي ما شاء من الخلق بأن يوجده على صفة الحياة كيف شاء في أطوار يقلبها كيف شاء ومما شاء (وَيُمِيتُ) أي : له هاتان الصفتان على سبيل الاختيار والتجدد والاستمرار فهو قادر على البعث بدليل ما ثبت له من صفة الإحياء (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) أي : من الإحياء والإماتة وغيرهما من كل ممكن (قَدِيرٌ) أي : بالغ القدرة.

(هُوَ) أي : وحده (الْأَوَّلُ) بالأزلية قبل كل شيء فلا أوّل له ، والقديم الذي منه وجود كل شيء ، وليس وجوده من شيء لأنّ كل ما نشاهده متأثر لأنه متغير وكل ما كان كذلك فلا بدّ له من موجد غير متأثر ولا متغير (وَالْآخِرُ) أي : بالأبدية الذي ينتهي إليه وجود كل شيء في سلسلة الترقي وهو بعد فناء كل شيء باق فلا آخر له ، لأنه يستحيل عليه نعت العدم لأنّ كل ما سواه متغير وكل ما تغير بنوع من التغير جاز إعدامه وما جاز إعدامه فلا بدّ له من معدم يكون بعده ولا يمكن إعدامه (وَالظَّاهِرُ) أي : الغالب العلي على كل شيء (وَالْباطِنُ) أي : العالم بكل شيء هذا معنى قول ابن عباس ، وقال يمان : هو الأوّل القديم والآخر الرحيم والظاهر الحكيم والباطن العليم ؛ وقال السدي : هو الأول ببره إذ عرفك توحيده والآخر بجوده إذ عرفك التوبة على ما جنيت والظاهر بتوفيقه إذ وفقك للسجود له والباطن بستره إذ عصيته فستر عليك ؛ وقال الجنيد : هو الأول بشرح القلوب والآخر بغفران الذنوب والظاهر بكشف الكروب والباطن بعلم الغيوب ؛ وسأل عمر كعبا عن هذه الآية فقال : معناها أن علمه بالأوّل كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي : لكون الأشياء عنده على حد سواء والبطون والظهور إنما هو بالنسبة إلى الخلق ، وأما هو سبحانه وتعالى فلا باطن من الخلق عنده بل هم في غاية الظهور لديه لأنه الذي أوجدهم.

فإن قيل : ما معنى هذه الواوات؟ أجيب : بأنّ الواو الأولى : معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية ؛ والثالثة : أنه الجامع بين الظهور والخفاء ، وأمّا الوسطى : فعلى أنه الجامع بين الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الآخريين فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والحاضرة والآتية وهي في جميعها ظاهر وباطن جامع للظهور بالأدلة والخفاء فلا يدرك بالحواس ؛ قال الزمخشري : وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة وهذا على رأيه الفاسد وهو على رأي المعتزلة المنكرين رؤية الله تعالى في الآخرة ؛ وأما أهل السنة فإنهم يثبتون الرؤية للأحاديث الدالة على ذلك من غير تشبيه ولا تكييف تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ؛ وعن سهل قال : كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول : اللهمّ ربّ السموات والأرض ربّ العرش العظيم ربنا ورب كل شيء ، فالق الحبّ والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان ، أعوذ بك من شرّ كل شيء أنت آخذ بناصيته ، اللهمّ أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنا الدين وأغننا من فضلك. وكان يروى ذلك عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

(هُوَ) أي : وحده (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) وجمعها لعلم العرب بتعددها (وَالْأَرْضَ) أي : الجنس الشامل للكل وأفردها لعدم توصلهم إلى العلم بتعدّدها وقال تعالى : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي:

__________________

(١) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٢٧١٣.

٢١١

من أيام الدنيا أولها الأحد وآخرها الجمعة سنا للتأني في الأمور وتقديرا للأيام التي أوترها سابعها الذي خلق فيه الإنسان الذي دل يوم خلقه باسمه الجمعة على أنه المقصود بالذات وبأنه السابع نهاية المخلوقات وقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي : السرير كناية عن انفراده بالتدبير وإحاطة قدرته وعلمه ، كما يقال في ملوكنا جلس فلان على سرير الملك بمعنى : أنه انفرد بالتدبير لا يكون هناك سرير فضلا عن جلوس وأتى بأداة التراخي تنبيها على عظمته (يَعْلَمُ ما يَلِجُ) أي : يدخل دخولا يغيب فيه (فِي الْأَرْضِ) أي : من النبات وغيره من أجزاء الأموات وغيرها وإن كان ذلك في غاية البعد فإنّ الأماكن كلها بالنسبة إليه تعالى على حد سواء في القرب والبعد (وَما يَخْرُجُ مِنْها) كذلك.

تنبيه : في التعبير بالمضارع دلالة على ما أودع في الخافقين من القوى فصارا بحيث يتجدد منهما ذلك بخلقه تجدّدا مستمرّا إلى حين خرابهما (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الوحي والأمطار والحرّ والبرد وغيرها من الأعيان والمنافع التي يوجدها سبحانه وتعالى من مقادير أعمار بني آدم وأرزاقهم وغيرها من جميع شؤونهم (وَما يَعْرُجُ) أي : يصعد ويرتقي ويغيب (فِيها) كالأبخرة والأنوار والكواكب والأعمال وغيرها ولم يجمع السماء لأنّ المقصود حاصل بالواحدة مع إفهام التعبير بها الجنس الشامل للكل (وَهُوَ مَعَكُمْ) بالعلم والقدرة أيها الخلق (أَيْنَ ما كُنْتُمْ) لا ينفك علمه وقدرته عنكم بحال فهو عالم بجميع أموركم وقادر عليكم تعالى الله عن اتصال بالعالم ومماسة أو انفصال عنه بغيبة أو مسافة (وَاللهُ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال (بِما تَعْمَلُونَ) أي : على سبيل التجدّد والاستمرار (بَصِيرٌ) أي : عالم بجليله وحقيره فيجازيكم به وقدم الجار لمزيد الاهتمام والتنبيه على تحقيق الإحاطة (لَهُ) أي : وحده (مُلْكُ السَّماواتِ) وجمع لاقتضاء المقام له (وَالْأَرْضِ) وأفرد لخفاء تعدّدها عليهم مع إرادة الجنس ، ودل على إرادة ملكه وإحاطته بقوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ) أي : الملك الذي لا كفؤ له وحده (تُرْجَعُ) بكل اعتبار على غاية السهولة (الْأُمُورُ) أي : كلها حسابا لبعث ومعنى بالابتداء والإفناء ودل على ذلك بقوله تعالى : (يُولِجُ) أي : يدخل ويغيب بالنقص والمحو (اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) فإذا هو قد قصر بعد طوله وقد انمحى بعد شخوصه وحلوله ، وزاد النهار وملأ الضياء الأقطار بعد ذلك الظلام (وَيُولِجُ النَّهارَ) الذي عمّ الكون ضياؤه (فِي اللَّيْلِ) الذي كان قد غاب في علمه فإذا الظلام قد طبق الآفاق فيزيد الليل والطول الذي كان في النهار قد صار نقصا (وَهُوَ) أي : وحده (عَلِيمٌ) أي : بالغ العلم (بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : بما فيها من الأسرار والمعتقدات على كثرة اختلافها وتغيرها وإن خفيت على أصحابها.

ولما قامت الأدلة على تنزيهه سبحانه قال تعالى آمرا بالإذعان له ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (آمِنُوا) أي : أيها الثقلان (بِاللهِ) أي : الملك الأعظم الذي لا مثل له (وَرَسُولِهِ) الذي عظمته من عظمته ، ونزل في غزوة العسرة وهي غزوة تبوك (وَأَنْفِقُوا) أي : في سبيل الله (مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي : من الأموال التي في أيديكم فإنها أموال الله تعالى لأنها بخلقه وإنشائه لها ، وإنما موّلكم إياها وخولكم بالاستمتاع بها وجعلكم خلفاء في التصرّف فيها فليست هي بأموالكم في الحقيقة وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب ، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه ، أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في

٢١٢

أيديكم بتوريثه إياكم فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم وسينقل منكم إلى من بعدكم ، فلا تبخلوا به وانفعوا بالإنفاق منها أنفسكم.

ولما أمر تعالى بالإنفاق ووصفه بما سهله سبب عنه ما يرغب فيه فقال تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا) من أموالهم في الوجوه التي ندب إليها على وجه الإصلاح على ما دلّ عليه التعبير بالإنفاق (لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) أي : لا تبلغ عقولكم حقيقة كبره فاغتنموا الإنفاق في أيام استخلافكم قبل عزلكم وإتلافكم ، وخصهم بالذكر بقوله تعالى : (مِنْكُمْ) لضيق في زمانهم ، وقيل : إنّ ذلك إشارة إلى عثمان فإنه جهز جيش العسرة.

وقوله تعالى : (وَما) أي : وأيّ شيء (لَكُمْ) من الأعذار أو غيرها في أنكم أو حال كونكم (لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي : تجدّدون الإيمان تجديدا مستمرا بالملك الأعلى ، أي : الذي له الملك كله والأمر كله خطاب للكفار ، أي : لا مانع لكم بعد سماعكم ما ذكر (وَالرَّسُولُ) أي : والحال أن الذي له الرسالة العامة (يَدْعُوكُمْ) في الصباح والمساء (لِتُؤْمِنُوا) أي : لأجل أن تؤمنوا (بِرَبِّكُمْ) الذي أحسن تربيتكم بأن جعلكم من أمّة هذا النبيّ الكريم فشرفكم به (وَقَدْ) أي : والحال أنه قد (أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) أي : وقع أخذه فصار في غاية القباحة ، ترك التوثق بسبب نصب الأدلة والتمكين من النظر بإبداع العقول وذلك كله منضم إلى أخذ الذرّية من ظهر آدم عليه‌السلام حين أشهدهم على أنفسهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] وقرأ أبو عمرو : بضم الهمزة وكسر الخاء ورفع القاف على البناء للمفعول ليكون المعنى : من أيّ أخذ كان من غير نظر إلى معين وقرأ الباقون بفتح الهمزة والخاء ونصب القاف على البناء للفاعل والآخذ هو الله القادر على كل شيء العالم بكل شيء ، والحاصل : أنهم نقضوا الميثاق في الإيمان فلم يؤاخذهم حتى أرسل الرسل (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : مريدين الإيمان فبادروا إليه (هُوَ) أي : لا غيره (الَّذِي يُنَزِّلُ) أي : على سبيل التدريج والموالاة بحسب الحاجة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي ، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي (عَلى عَبْدِهِ) الذي هو أحق الناس بحضرة جماله وإكرامه وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آياتٍ) أي : علامات هي من ظهورها حقيقة أن يرجع إليها ويتعبد بها (بَيِّناتٍ) أي : واضحات وهي آيات القرآن الكريم (لِيُخْرِجَكُمْ) أي : الله بالقرآن أو عبده بالدعوة (مِنَ الظُّلُماتِ) التي أنتم منغمسون فيها من الحظوظ والنقائص التي جبل عليها الإنسان والغفلة الكاملة على تراكم الجهل ، فمن آتاه الله تعالى العلم والإيمان فقد أخرجه من هذه الظلمات التي طرأت عليه (إِلَى النُّورِ) الذي كان له وصفا لروحه وفطرته الأولى السليمة (وَإِنَّ اللهَ) أي : الذي له صفات الكمال (بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي : حيث نبهكم بالرسل والآيات ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية ، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بقصر الهمزة ، والباقون بالمدّ ، وورش على أصله بالمدّ والتوسط والقصر ، وليس قصره كقصر أبي عمرو ومن معه وإنما قصره كمدّ قالون ومن وافقه (وَما) أي : وأي شيء يحصل (لَكُمْ) في (أَلَّا تُنْفِقُوا) أي : توجدوا الإنفاق للمال (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : في كل ما يرضي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال ليكون لكم به وصلة فيخصكم بالرأفة التي هي أعظم الرحمة ، فإنه ما يبخل أحد عن وجه خير إلا سلط الله عليه غرامة في وجه شرّ (وَلِلَّهِ) أي : الذي له صفات الكمال لا سيما صفة الإرث المقتضية للزهد في الموروث (مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : يرث كل شيء فيهما فلا يبقى لأحد مال فمن تأمّل أنه

٢١٣

زائل هو وكل ما في يده والموت من ورائه وطوارق الحوادث مطبقة به وعما قليل ينقل ما في يده إلى غيره هان عليه الجود بنفسه وماله ثم بين تعالى التفاوت بين المنفقين منهم فقال تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ) أي : أوجد الإنفاق في ماله وجميع قواه وما

يقدر عليه (مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) أي : الذي هو فتح جميع الدنيا في الحقيقة وهو فتح مكة الذي كان سببا لظهور الدين الحق (وَقاتَلَ) سعيا في إنفاق نفسه لمن آمن به قبل الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجا وقله الحاجة إلى القتال والنفقة فيه ومن أنفق من بعد الفتح ، فحذف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه ، وفضل الأوّل لما ناله إذ ذاك بالإنفاق من كثرة المشاق لضيق المال حينئذ ، وفي هذا دليل على فضل أبي بكر فإنه أوّل من أنفق لم يسبقه في ذلك أحد ، وخاصم الكفار حتى ضرب ضربا شديدا أشرف منه على الهلاك ، روى محمد بن فضيل عن الكلبي : أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضى الله عنه ، وعن ابن عمر قال : «كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده أبو بكر الصديق عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فنزل عليه جبريل عليه‌السلام فقال : ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها بخلال؟ فقال : أنفق ماله عليّ قبل الفتح قال : فإنّ الله عزوجل يقول : اقرأ عليه‌السلام وقل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر : أسخط على ربي إني عن ربي راض» (١)(أُولئِكَ) أي : المنفقون المقاتلون وهم السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» (٢) لمبادرتهم إلى الجود بالنفس والمال (أَعْظَمُ دَرَجَةً) وتعظيم الدرجة يكون لعظم صاحبها (مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ) أي : من بعد الفتح (وَقاتَلُوا) أي : من بعد الفتح (وَكُلًّا) أي : وكل واحد من الفريقين (وَعَدَ اللهُ) أي : الذي له الجلال والإكرام (الْحُسْنى) أي : المثوبة الحسنى وهي : الجنة مع تفاوت الدرجات ، وقرأ ابن عامر : برفع اللام على الابتداء أي : وكل وعده ليطابق ما عطف عليه والباقون بنصبها أي : وعد كلا (وَاللهُ) أي : الذي له الإحاطة الكاملة بجميع صفات الكمال (بِما تَعْمَلُونَ) أي : تجدّدون عمله على الأوقات (خَبِيرٌ) أي : عالم بباطنه وظاهره علما لا مزيد عليه بوجه فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيات التي هي أرواح صورها.

تنبيه : التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدين وقد يكون في أحكام الدنيا فأمّا التقدّم في أحكام الدين فقالت عائشة «أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ننزل الناس منازلهم وأعظم المنازل مرتبة الصلاة» (٣) وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مرضه : «مروا أبا بكر فليصل بالناس» (٤) وقال : «يؤم القوم أقرؤهم

__________________

(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦ / ١٩٠ ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٢ / ١٠٥ ، والبغوي في تفسيره ٧ / ٣٢ ، وابن كثير في تفسيره ٦ / ١٩٠.

(٢) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٦٧٣ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٦٥٨ ، وأحمد في المسند ٣ / ١١ ، ٥٤.

(٣) روي الحديث بلفظ : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزلوا الناس منازلهم» ، أخرجه بهذا اللفظ أبو داود حديث ٤٨٤٢ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦ / ٢٦٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٥٧١٧ ، ١٧١٤٦.

(٤) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٦٦٤ ، ومسلم في الصلاة حديث ٤١٨ ، وأبو داود في الصلاة حديث ٩٤٠ ، والترمذي في المناقب حديث ٣٦٧٢ ، والنسائي في الإمامة حديث ٨٣٣ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١٢٣٢.

٢١٤

لكتاب الله» (١) وقال : «فليؤمكما أكبركما» (٢) وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين فمن قدّم في الدين قدّم في الدنيا ، وفي الحديث «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا» (٣) وفي الحديث : «ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه» (٤)

ثم رغب في الإنفاق بقوله تعالى : (مَنْ) وأكد بالإشارة بقوله تعالى : (ذَا) لأجل ما للنفوس من الشح (الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) أي : يعطي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام شبه ذلك بالقرض على سبيل المجاز لأنه إذا أعطى المستحق ما له لوجه الله تعالى فكأنه أقرضه إياه (قَرْضاً حَسَناً) أي : طيبا خالصا مخلصا فيه متحريّا به أفضل الوجوه من غير منّ وكدر بتسويف وغيره (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) أي : يؤتي أجره من عشرة إلى أكثر من سبعمئة كما ذكره في البقرة إلى ما شاء الله تعالى من الأضعاف ، وقيل : القرض الحسن أن يقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقال زيد بن أسلم : هو النفقة على الأهل ، وقال الحسن : التطوع بالعبادات ، وقرأ ابن عامر وعاصم بنصب الفاء بعد العين والباقون بالرفع وقرأ ابن كثير وابن عامر بغير ألف بعد الضاد وتشديد العين ، والباقون بألف بعد الضاد وتخفيف العين (وَلَهُ) أي : للمقرض زيادة على ذلك (أَجْرٌ) لا يعلم قدره إلا الله تعالى وهو معنى وصفه بقوله تعالى : (كَرِيمٌ) أي : حسن طيب زاك تامّ.

وقوله تعالى :

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ

__________________

(١) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٦٧٣ ، وأبو داود في الصلاة حديث ٥٨٢ ، والترمذي في الصلاة حديث ٢٣٥ ، والنسائي في الإمامة حديث ٧٨٠ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ٩٨٠.

(٢) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٦٣٠ ، ٦٣١ ، ومسلم في المساجد حديث ٦٧٤ ، وأبو داود في الصلاة حديث ٥٨٩ ، والترمذي في الصلاة حديث ٢٠٥ ، والنسائي في الأذان حديث ٦٣٤ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ٩٧٩.

(٣) أخرجه بهذا اللفظ أحمد في المسند ٣ / ٢٠٧ ، وأخرجه أبو داود في الأدب حديث ٤٩٤٣ ، بلفظ : «من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا» ، وأخرجه الترمذي في البر حديث ١٩١٩ ، ١٩٢٠ ، ١٩٢١ ، بلفظ : «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا».

(٤) أخرجه الترمذي في البر حديث ٢٠٢٢.

٢١٥

وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠))

(يَوْمَ) ظرف لقوله تعالى : (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أو منصوب بإضمار أذكر أي : واذكر يوم (تَرَى) أي : بالعين (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي : الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة (يَسْعى نُورُهُمْ) أي : ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ، كما أنّ الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم فيجعل النور في الجهتين شعارا لهم وآية لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا ، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومرّوا على الصراط يسعون يسعى معهم ذلك النور حبيبا لهم ومتقدّما ، والأوّل : نور الإيمان والمعرفة والأعمال المقبولة ، والثاني : نور الإنفاق لأنه بالإيمان نبه عليه الرازي وقال قتادة : ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن ودون ذلك حتى أنّ من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه» (١). وقال عبد الله بن مسعود : «يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويتقد أخرى ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ) أي : بشارتكم العظيمة في جميع ما يستقبلكم من الزمان.

تنبيه : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ) مبتدأ واليوم ظرف وقوله تعالى : (جَنَّاتٌ) خبره على حذف مضاف أي : دخول جنات وهو المبشر به ثم وصفها بما لا تكمل اللذة إلا به بقوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ثم آمنهم من خوف الانقطاع بقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها) أي : خلودا لا آخر له لأنّ الله تعالى أورثهم ذلك فلا يورث عنه لأنّ الجنة لا موت فيها (ذلِكَ) أي : هذا الأمر العظيم المتقدّم من النور والبشرى بالجنات المخلدة (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي : الذي ملأ بعظمته جميع جهاتهم.

ولما شرح تعالى حال المؤمنين في موقف القيامة أتبع ذلك بشرح حال المنافقين بقوله : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) وهم المظهرون الإيمان المبطنون الكفر.

تنبيه : يوم بدل من يوم ترى أو منصوب بأذكر (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : ظاهرا وباطنا (انْظُرُونا) أي : انتظرونا لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف على ركائب تزف بهم وهؤلاء مشاة ، أو انظروا إلينا لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به ، وقرأ حمزة : بقطع الهمزة في الوصل وكسر الظاء والباقون بوصل الهمزة ورفع الظاء ، وأما الوقف على آمنوا والابتداء بانظرونا فحمزة على حاله كما يقرأ في الوصل ، والباقون بضم همزة الوصل في الابتداء والظاء على حالها من الضم (نَقْتَبِسْ) أي : نستضيء (مِنْ نُورِكُمْ) أي : هذا الذي نراه لكم ولا يلحقنا منه شيء كما كنا في الدنيا نرى إيمانكم بما نرى من ظواهركم ولا نتعلق من ذلك بشيء ، (جَزاءً وِفاقاً) [النبأ : ٢٦] وذلك لأنّ الله تعالى يضيء للمؤمنين نورا على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ، ويعطي المنافقين أيضا نورا خديعة لهم وهو قوله تعالى : (وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] فبينما هم يمشون إذ بعث الله ريحا وظلمة فأطفأت نور المنافقين فذلك قوله تعالى :

__________________

(١) أخرجه البغوي في تفسيره ٥ / ٢٨.

٢١٦

(يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم : ٨] الآية مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب نور المنافقين والقبس الشعلة من النار أو السراج ، قال ابن عباس وأبو إمامة : يغشى الناس يوم القيامة ظلمة ؛ قال الماوردي : أظنها بعد فصل القضاء ثم يعطون نورا يمشون فيه ؛ وقال الكلبي : بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون وبقوا في الظلمة قالوا للمؤمنين : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) قيل لهم جوابا لسؤالهم ؛ قال ابن عباس يقول لهم المؤمنون : أي : قول ردّ وتوبيخ وتهكم وتنديم (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) أي : ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا النور (فَالْتَمِسُوا نُوراً) هناك فمن ثم يقتبس أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نورا بتحصيل سببه وهو الإيمان أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا والتمسوا نورا آخر فلا سبيل لكم إلى هذا النور ، وقد علموا أن لا نور وراءهم وإنما هو تخييب وإقناط لهم ، وقال قتادة : تقول لهم الملائكة : ارجعوا وراءكم من حيث جئتم ، وقرأ هشام والكسائي : بضم القاف والباقون بكسرها.

ولما كان التقدير فرجعوا أو فأقاموا في الظلمة سبب عنه وعقب قوله تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ) أي : بين المؤمنين والمنافقين (بِسُورٍ) أي : حائط حائل بين شق الجنة وشق النار (لَهُ) أي : لذلك السور (بابٌ) موكل به حجاب لا يفتحون إلا لمن أذن له الله تعالى من المؤمنين لما يهديهم إليه من نورهم الذي بين أيديهم بشفاعة أو نحوها (باطِنُهُ) أي : ذلك السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة من جهة الذين آمنوا جزاء لإيمانهم الذي هو غيب (فِيهِ الرَّحْمَةُ) وهي ما لهم من الكرامة لأنه يلي الجنة التي هي ساترة تبطن من فيها بأشجارها وبأستارها كما كانت بواطنهم ملآنة رحمة (وَظاهِرُهُ) أي : ما ظهر لأهل النار (مِنْ قِبَلِهِ) أي : من عنده ومن جهته (الْعَذابُ) وهو الظلمة والنار لأنه يليها لاقتصار أهلها على الظواهر من غير أن يكون لهم نفوذ إلى باطن ، وروي عن عبد الله بن عمر أنّ السور الذي ذكر الله تعالى في القرآن هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم.

وقال ابن سريج : كان كعب يقول : في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس إنه الباب الذي قال الله تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ) الآية ، وقيل : السور عبارة عن منع المنافقين عن طلب المؤمنين (يُنادُونَهُمْ) أي : ينادي المنافقون الذين آمنوا ويترققون لهم (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) أي : في الدنيا نصلي ونصوم فنستحق المشاركة فيما صرتم إليه بسبب ذلك الذي كنا معكم فيه (قالُوا) أي : الذين آمنوا (بَلى) أي : كنتم معنا في الظاهر (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملتموها في المعاصي والشهوات وكلها فتنة (وَتَرَبَّصْتُمْ) أي : بالإيمان والتوبة وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقلتم : يوشك أن يموت فنستريح منه (وَارْتَبْتُمْ) أي : شككتم في الدين وفي نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيما وعدكم به (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) أي : ما تتمنون من الإرادات التي معها شهوة عظيمة من الأطماع الفارغة التي لا سبب لها غير شهوة النفس إياها بما كنتم تتوقعون لنا من دوائر السوء (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) أي : قضاء الملك المتصف بجميع صفات الكمال فلا كفؤ له ولا خلف وقرأ قالون وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر ، وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية ، وأيضا لهما إبدالها والباقون بتحقيقهما ، وأمال الألف بعد الميم حمزة وابن ذكوان ، والباقون بالفتح وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة الثانية مع المدّ والتوسط والقصر (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ) أي : الملك الذي له جميع العظمة (الْغَرُورُ) أي : من لا صنع له إلا الكذب وهو الشيطان

٢١٧

فإنه يزين لكم بغروره التسويف ويقول : إنّ الله غفور رحيم وعفو كريم وماذا عسى أن تكون ذنوبكم عنده وهو عظيم ومحسن وحليم ونحو ذلك فلا يزال حتى يوقع الإنسان فإذا أوقعه واصل عليه مثل ذلك حتى يتمادى فإذا تمادى صار الباعث له حينئذ من قبل نفسه فصار طوع يده (فَالْيَوْمَ) أي : بسبب أفعالكم تلك (لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) أي : نوع من أنواع الفداء وهو البدل والعوض للنفس على أي حال كان من قلة أو كثرة لأنّ الإله غني وقد فات محل العمل الذي شرعه لكم لانقياد أنفسكم ، وقرأ ابن عامر بالتاء الفوقية على التأنيث والباقون بالتحتية على التذكير (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : الذين أظهروا كفرهم ولم يستروه كما سترتموه أنتم لمساواتكم لهم في الكفر ، وإنما عطف الكافر على المنافق وإن كان المنافق كافرا في الحقيقة لأنّ المنافق أبطن الكفر والكافر أظهره فصار غير المنافق فحسن عطفه على المنافق (مَأْواكُمُ النَّارُ) أي : منزلكم ومسكنكم لا مقر لكم غيرها تحرقكم كما كنتم تحرقون قلوب الأولياء بإقبالكم على الشهوات وإضاعة حقوق ذوي الحاجات ، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح ، وورش لا يبدل هذه الهمزة ثم أكد ذلك بقوله تعالى : (هِيَ) أي : لا غيرها (مَوْلاكُمْ) أي : هي أولى بكم وأنشد قول لبيد (١) :

فغدت كلا الفرجين تحسب أنه

مولى المخافة خلفها وأمامها

والشاهد في مولى المخافة فمولى بمعنى أولى والفرجان الجانبان وهو الخلف والقدام وهو وصف بقرة وحشية أي : غدت على حالة كلا جانبيها مخوف وحقيقته في الآية محراكم بحاء مهملة وراء أي : مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم أي : مكان ، كقول القائل : إنه لكريم ، ويجوز أن يراد هي ناصركم ، أي : لا ناصر لكم غيرها ، والمراد : نفي الناصر على البنات ، وقيل : تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار.

ولما كان التقدير بئس المولى هي عطف عليه قوله تعالى : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي : هذه النار واختلف في سبب نزول قوله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ) أي : يحن ويدرك وينتهي إلى الغاية (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقرّوا بالإيمان (أَنْ تَخْشَعَ) أي : تلين وتسكن وتخضع وتذل وتطمئن (قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) أي : الملك الأعظم الذي لا خير إلا منه فيصدق في إيمانه من كان كاذبا ويقوى في الدين من كان ضعيفا فيعرض عن الفاني ويقبل على الباقي ولا يطلب لداء دينه دواء ولا لمرض قلبه شفاء في غير القرآن ، فقال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن ، وعن ابن مسعود رضى الله عنه : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين ، وعن الحسن : أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل ما تقرؤون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق ، وقيل : كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت ؛ وعن أبي بكر رضى الله عنه : أنّ هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديدا فنظر إليهم وقال : هكذا كنا حتى

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان لبيد ص ٣١١ ، وإصلاح المنطق ص ٧٧ ، والدرر ٣ / ١١٧ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٧٠ ، وشرح المفصل ٢ / ١٢٩ ، والكتاب ١ / ٤٠٧ ، ولسان العرب (أمم) ، (كلا) ، (ولي) ، والمقتضب ٤ / ٣٤١ ، وكتاب العين ٨ / ٤٢٩.

٢١٨

قست القلوب وقال الشاعر (١) :

ألم يأن لي يا قلب أن نترك الجهلا

وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلا

وقوله تعالى : (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) أي : القرآن عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر لأن القرآن جامع للأمرين للذكر والموعظة أو أنه حق نازل من السموات ؛ ويجوز أن يراد بالذكر أن يذكر الله تعالى ، وقرأ نافع وحفص بتخفيف الزاي والباقون بالتشديد وقوله تعالى : (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) أي : قبل ما نزل إليكم وهم اليهود والنصارى معطوف على تخشع والمراد : النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكى عنهم بقوله تعالى : (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) أي : الأجل لطول أعمارهم أو آمالهم أو ما بينهم وبين أنبيائهم (فَقَسَتْ) أي : بسبب الطول (قُلُوبُهُمْ) أي : صلبت واعوجت بحيث لا تنفعل بالطاعات والخير فكانوا كل حين في تعنت جديد على أنبيائهم عليهم‌السلام يسألونهم المقترحات ، وأما بعد أنبيائهم فابعدوا في القساوة فمالوا إلى دار الكدر وأعرضوا عن دار الصفاء فانجروا إلى الهلاك باتباع الشهوات ؛ قال القشيري : وقسوة القلب إنما تحصل باتباع الشهوة فإن الشهوة والصفوة لا يجتمعان ؛ وعن أبي موسى الأشعري : أنه بعث إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرؤوا القرآن فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاقرؤه ولا تطيلوا عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) أخرجته قساوته عن الدين أصلا ورأسا فهم (فاسِقُونَ) أي : عريقون في صفة الإقدام على الخروج من دائرة الحق التي حدها لهم الكتاب حتى تركوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.

وقوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ) أي : الملك الأعظم الذي له الكمال كله فلا يعجزه شيء (يُحْيِي) أي : على سبيل التجديد والاستمرار كما تشاهدونه (الْأَرْضَ) أي : بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) أي : يبسها تمثيل لإحياء الأموات بجميع أجسادهم وإفاضة الأرواح عليها كما فعل بالنبات وكما فعل بالأجسام أول مرة ، ولإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة فاحذروا سطوته واخشوا غضبه وارجوا رحمته ، لإحياء القلوب فإنه قادر على إحيائها بروح الوحي كما أحيا الأرض بروح الماء لتصير بإحيائها بالذكر خاشعة بعد قسوتها كما صارت الأرض رابية بعد خشوعها وموتها.

ولما انكشف الأمر بهذه غاية الانكشاف أنتج قوله تعالى : (قَدْ بَيَّنَّا) أي : على ما لنا من العظمة (لَكُمُ الْآياتِ) أي : العلامات النيرات (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي : لتكونوا عند من يعلم ذلك ويسمعه من الخلائق على رجاء من حصول العقل لكم بما يتجدد لكم من فهمه على سبيل التواصل الدائم بالاستمرار

وقرأ : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ) أي : العريقين في هذا الوصف من الرجال (وَالْمُصَّدِّقاتِ) أي : من النساء ، ابن كثير وشعبة بتخفيف الصاد فيهما من التصديق بالإيمان والباقون بالتشديد فيهما من التصدق أدغمت التاء في الصاد أي : الذين تصدقوا وقوله تعالى : (وَأَقْرَضُوا اللهَ) أي : الذي له الكمال كله عطف على معنى الفعل في المصدقين لأنّ اللام بمعنى الذين واسم الفاعل بمعنى أصدقوا كأنه قيل : إنّ الذين أصدقوا وأقرضوا الله (قَرْضاً حَسَناً) أي : بغاية ما يكون من طيب

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٢١٩

النفس وإخلاص النية والنفقة في سبيل الخير وحسنه ؛ كما قاله الرازي : أن يصرف بصره عن النظر إلى فعله والنفقة والامتنان به وطلب العوض عليه (يُضاعَفُ) أي : ذلك القرض (لَهُمْ) من عشرة إلى سبعمائة كما مرّ لأنّ الذي كان له العرض كريم ، وقرأ ابن كثير وابن عامر : بتشديد العين ولا ألف بينها وبين الضاد ؛ والباقون بتخفيف العين وبينها وبين الضاد ألف (وَلَهُمْ) أي : مع المضاعفة (أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي : ثواب حسن وهو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم.

ثم بين سبحانه وتعالى الحامل على الصدقة ترغيبا فيه وهو الإيمان فقال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي : أوجدوا هذه الحقيقة العظيمة في أنفسهم (بِاللهِ) أي : الملك الأعلى الذي له الجلال والإكرام (وَرُسُلِهِ) أي : كلهم لأجل ما لهم من النسبة إليه فمن كذب واحد منهم لم يكن مؤمنا بالله تعالى : (أُولئِكَ) أي : هؤلاء العالو الرتبة (هُمُ الصِّدِّيقُونَ) أي : الذين هم في غاية الصدق والتصديق لما يحق له أن يصدقه من سمعه ؛ وقال القشيري الصديق من استوى ظاهره وباطنه ؛ ويقال : هو الذي يحمل الأمر على الأشق ولا ينزل إلى الرخص ولا يجنح للتأويلات ؛ وقال مجاهد : كل من آمن بالله تعالى ورسله عليهم‌السلام فهو صدّيق وتلا هذه الآية ؛ وقال الضحاك : الآية خاصة في ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم ألحقه الله تعالى بهم لما عرف من صدق نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله ، واختلف في نظم قوله تعالى : (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : المحسن إليهم بالتربية لمثل تلك الرتبة العالية فمنهم من قال : هي متصلة بما قبلها والواو للنسق وأراد بالشهداء المؤمنين المخلصين ، وقال الضحاك : هم التسعة الذين سميناهم رضي الله عنهم ؛ وقال مجاهد : كل مؤمن صدّيق وشهيد وتلا هذه الآية ، وقال قوم : تم الكلام عند قوله تعالى : (هُمُ الصِّدِّيقُونَ) ثم ابتدأ بقوله تعالى : (وَالشُّهَداءُ) فهو مبتدأ وخبره (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) أي : جعله ربهم لهم (وَنُورُهُمْ) أي : الذي زادهموه من فضله برحمته قالوا : والواو للاستئناف وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومسروق وجماعة ؛ ثم اختلفوا فيهم فمنهم من قال : هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين يشهدون على الأمم يروى ذلك عن ابن عباس رضى الله عنهما وهو قول مقاتل بن حيان ، وقال مقاتل بن سليمان : هم الذين استشهدوا في سبيل الله عزوجل.

ولما ذكر تعالى أهل السعادة جعلنا الله تعالى ووالدينا ومحبينا منهم جامعا لأصنافهم أتبعهم أهل الشقاوة لذلك بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ستروا ما دلت عليه الأدلة (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي : على ما لها من العظمة بنسبتها إلينا (أُولئِكَ) أي : هؤلاء البعداء من كل خير (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي : النار التي هي غاية في توقدها وفي ذلك دليل على أنّ الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث إن التركيب يشعر بالاختصاص ، والصحبة تدل على الملازمة عرفا ، وأما غيرهم من العصاة فدخولهم فيها ليس على وجه الصحبة الدالة على الملازمة.

ولما ذكر تعالى حال الفريقين في الآخرة حقر أمر الدنيا بقوله تعالى : (اعْلَمُوا) أي : أيها العباد المبتلون بحب الدنيا (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي : الحاضرة التي رغب في الزهد فيها والخروج عنها بالصدقة والقرض الحسن ، وما مزيدة للتأكيد أي : الحياة في هذه الدار (لَعِبٌ) أي : لعب لا ثمرة له فهو باطل كلعب الصبيان (وَلَهْوٌ) أي : شيء يفرح به الإنسان فيلهيه أي يشغله عما يعنيه ثم ينقضي كلهو الفتيان ، ثم أتبع ذلك أعظم ما يلهي في الدنيا بقوله تعالى : (وَزِينَةٌ) أي : شيء يبهج

٢٢٠